خطبة عن الموت والاستعداد له مكتوبة انَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ ، وَنَسْتَعِينُه ، وَنَسْتَغْفِرُه ، ونستهديه ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، (مَن يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَه ، وَمَن يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ له) ، [١][٢] وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي لَا يَمُوتُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَإِن محمداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صفيّه وَخَلِيلُه . [٣][٤]
.
عِبَادِ اللَّهِ ، أُوصِيكُم وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ ، قَال -تعالى- : (وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) ، [٥] فَاتَّقُوا اللَّهَ ، واعبدوه ، واخشوه ، وَإِيَّاكُم وَعِصْيَانُه وَالْوُقُوع بمحرّماته ، واحرصوا كُلّ الْحِرْصُ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ ، وَالِاقْتِدَاء بِنَبِيِّه ، وَالسَّيْرِ عَلَى نَهْجِهِ ، [٦][٧] قَال -تعالى- : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) ، [٨] .
.
فَالتَّقْوَى مِفْتَاح تَيْسِيرِ الْأُمُورِ ، وسببٌ فِي تَفْرِيج الْكُرُوب وَالْهُمُوم ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الْقَوِيمُ لِلْفَوْز بِالْجَنَّة وَالنَّجَاةَ مِنْ النَّارِ . [٩]
لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وليّ الْأَمْر وَالتَّدْبِير ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَصِير -سبحانه وتعالى- ، كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَقَاء وَعَلَى خَلْقِه الْفَنَاء ، فَهُو الْحَيّ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَمُوتُ ، وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ يَمُوتُون ، قَال -تعالى- : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) ، [١٠] .
خطبة عن الموت والاستعداد له مكتوبة
عِبَادِ اللَّهِ ، إذَا حَضَرَ الْمَوْتُ لَا يَقْوَى أحدٌ عَلَى تَغْيِيرِ وَقْتِهِ أَوْ تَأْجِيلِهِ لِيَتَدَارَك مَا فَاتَهُ وَيَعْمَل صالحاً ، فَصَلَاح الْآخِرَةِ مَا هُوَ إلَّا الْغَرْس الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا ، [١١][١٢] فَكَمْ مِنْ أمواتٍ كَانُوا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ عِبَادَتِه مُعرضين ، وَفِي اللّهو واللّعب منغمسين ، وَفِي ملذّاتهم وَمَصَالِحَهُم غارقين غَافِلِين ، فَلَمْ يَلْبَثُوا إلَّا وفجأة الْمَوْت تحضرهم ، فَإِذَا بِهِمْ لَا يتمنّون إلَّا ساعةً فِي دُنياهم ليُحسنوا ويُصلحوا ويبذلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قَال -تعالى- : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) . [١٣][١٤]
.
عِبَادِ اللَّهِ ، مَا الْمَوْتِ إلَّا عِظَة لقومٍ يتفكّرون ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ مِلْكَ الْمَوْتِ دَخَلَ عَلَى دَاوُد -عليه السلام- فَقَال : “من أَنْت ؟ فَقَالَ مَلِكٌ الْمَوْتِ : أَنَا مَن لَا يَهَاب الْمُلُوك ، وَلَا تُمنع مِنْه الْقُصُور ، وَلَا يُقْبَلُ الرِّشْوَة ، قَال : فإذاً أَنْتَ مَلِكُ الْمَوْتِ ؟ قَال : نَعَم ، قَال : أَتَيْتنِي وَلَم اِسْتَعَدّ بَعْد ؟ قَال : يَا دَاوُد ، أَيْنَ فُلَانٌ قريبك ؟ أَيْنَ فُلَانٌ جَارِك ؟ قَال : مَات ، قَال : أَمَا كَانَ لَك فِي هَؤُلَاءِ عِبْرَة لتستعد” ؟ [١٥] .
.
وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عِبْرَة وَحُكْمُه عَظِيمَةٌ وحافز لنجدّد إيمَانُنَا بِالله ، ولنُخلص الْعَمَل لَهُ وَحْدَهُ ، ولنحرص عَلَى الزِّيَادَةِ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الطَّاعَةِ حَتَّى وَلَوْ بِالْقَلِيل ، فقليلٌ دَائِمٌ خيرٌ مِن كثيرٍ مُنْقَطِعٌ ، ولنجتنب السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ ، ولنبتعد عَنِ الزَّلاَّتِ بِتَزْكِيَة النَّفْس وعفّها عَنْ الْمَعَاصِي وَارْتِكَاب الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ ، فَالْمَوْت قادمٌ لَا مَحَالَةَ قدّره اللَّه -تعالى- لِعِبَادِه ، فَهُو نِهَايَةٌ الدَّار الدُّنْيَا ، وَمَا هِيَ إلَّا دَارٌ عبورٍ مؤقّتة لنستعدّ للدّار الْخَالِدَة ؛ الدَّارِ الْآخِرَةِ .
.
يَقُولُ الشّاعِرُ ::
تَزَوَّدْ مـن التقـوى فَإِنَّك لَا تـدري *** إذَا جَنَّ ليلٌ هـل تعيشُ إلَى الفجرِ
فَكَمْ مِنْ فَتًى أَمْسَى وَأَصْبَحَ ضاحكاً *** وَقَد نُسِجَـْت أكفانُه وَهُوَ لَا يدرِي
وَكَمْ مِنْ صغارٍ يُرْتَجَى طولُ عُمُرِهِم *** وَقَد أُدخلت أجسامُهم ظلمـةَ القبرِ
وَكَمْ مِنْ عروسٍ زينوهـا لزوجهـا *** وَقَد قُبضت أرواحُهـم ليلةَ القدرِ
وَكَمْ مِنْ صحيحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ علةٍ *** وَكَمْ مِنْ عليلٍ عَاش حيناً مِن الدهرِ
.
مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ، أَنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَات ، وَهَذِه السَّكَرَات تَخْتَلِفُ بَيْنَ الْمُؤْمِن وَالْعَاصِي وَالْكَافِر ، فَأَمّا الْمُؤْمِنُونَ قَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ -تعالى- بِقَوْلِه : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) ، [١٦] وَأَمَّا الْكَافِرُون والعاصون فَأَخْبَرَ اللَّهُ -تعالى- عَنْ حَالِهِمْ بِقَوْلِه : (وَلَو تَرى إِذِ الظّالِمونَ فِي غَمَراتِ المَوتِ وَالمَلائِكَةُ باسِطو أَيديهِم أَخرِجوا أَنفُسَكُمُ اليَومَ تُجزَونَ عَذابَ الهونِ بِما كُنتُم تَقولونَ عَلَى اللَّـهِ غَيرَ الحَقِّ وَكُنتُم عَن آياتِهِ تَستَكبِرونَ) . [١٧][١٨] .
.
وَمَنْ كَانَ يَسْعَى لِلِقَاءِ اللَّهِ وَالْفَوْز بجنّته ؛ فَعَلَيْه الْمُوَاظَبَة والتزوّد بِخَيْر زادٍ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحِ ، وَعَلَيْه الْخَشْيَة وَالْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ -تعالى- وَالْحِرْصِ عَلَى التقرّب مِنْه بتنزيهه وَأَفْرَادِه بِالْعِبَادَة وَحْدَه ، قَال -تعالى- : (فَمَن كانَ يَرجو لِقاءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلًا صالِحًا وَلا يُشرِك بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) . [١٩][٢٠]
🌻الخطبة الثانية🌻
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نبيّ بَعْدَه ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ ، أَمَّا بَعْدُ ؛ فَيَا عِبَادَ اللَّهِ ، أُوصِيكُم وَنَفْسِي المقصّرة بِتَقْوَى اللَّهِ ، فَقَدْ فَازَ المتّقون .
.
عِبَادِ اللَّهِ لَا خوفٌ يُضاهي خَوْفُ الْمَوْتِ ، ولنأخذ الْعِبَرِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ فِي ذَلِكَ ، حَيْث نُقل أَنَّ الصَّحَابِيَّ الْجَلِيلُ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- بَكَى فِي مَرَضِهِ ، فَقِيلَ لَهُ : “ما يُبْكِيك ؟ فَقَال : أَمَا إِنِّي لَا أَبْكِي عَلَى دُنْيَاكُم هَذِه ، وَلَكِنِّي أَبْكِي عَلَى بُعْدٍ سَفَرِي ، وَقِلَّة زَادِي ، وَأَنَا أَصْبَحْتَ فِي صُعُودِ مُهْبِطٌ عَلَى جَنّةٍ وَنَارٍ ، وَلَا أَدْرِي إِلَى أَيَّتَهُمَا يُؤْخَذ بي” . [٢١][٢٢]
.
وَلَمَّا حَضَرَتْ الْخَلِيفَة الْمَأْمُون الْوَفَاة بَكَى وَقَالَ : “اللهم يَا مَنْ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ ارْحَمْ مَنْ قَدْ زَالَ ملكه” ، [٢٢] فَالْمَوْتُ لَا يُفرّق بَيْن أميرٍ وَأَجِير ، وصغيرٍ وَكَبِير ، ورجلٍ وَامْرَأَةٌ ، وَمَا تَدْرِي نفسٌ بأيِّ أرضٍ تَمُوت .
وَهَذَا حَتَّى نبقى عَلَى أهبّة الِاسْتِعْدَاد ، فَالْعُمُر لَحْظَة ، وَنِهَايَة الْعَبْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ وحيداً بِقَبْرِه ؛ الَّذِي إمَّا أَنْ سَيَكُونُ روضةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حفرةً مَنْ حَفَرَ النَّارِ . [٢٣][٢٤].
.
اعْلَمُوا عَبَّاد إنَّ اللَّهَ قَدْ صلّى عَلَى نبيّه فَقَالَ وَلِمَ يَزَلْ قائلاً عليماً وآمراً حكيماً تشريفاً لِقَدْر نبيّه -صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- وتعظيماً : (إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[٢٥] .
.
فاللهم صلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ، فِي الْعَالَمِينَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ، الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ .
.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّك أَنْتَ الْوَهَّابُ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدِ سخاءً رخاءً وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ . [٢٦]
.
اللَّهُمّ ..هوّن عَلَيْنَا فِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ ، وَنَسْأَلُك يَا اللَّهُ النَّجَاةُ مِنْ النَّارِ وَالْعَفْوُ عِنْدَ الْحِسَابِ يَا خَالِقَ الْمَوْت وَيَا سَامِع الصَّوْت رَبِّ الْعَالَمِينَ ، اللَّهُ أَحْسَنُ خاتمتنا .
.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُبُورِنَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ . [٢٧][٢٨].والحمد لله رب العالمين، واقم الصلاة..
التعليقات مغلقة.